مقدمة:
توفرت في مطلع هذا القرن ظروف علمية وتقنية واقتصادية، أتاحت للمجتمعات الإنسانية الانتقال من مرحلة الاختراعات المتقطعة والمنفردة إلى مرحلة أوسع تتميز بالتحولات المنظومية للتقانات كافة، مما ساعد هذه المجتمعات على القفز من مجتمع الصناعة- التقانة إلى مجتمع المعرفة। في حقيقة الأمر تشهد البشرية في عصرنا الحالي ثورات عدة متفاعلة. هذه الثورات التي تحدث التأثير في المجتمعات المعاصرة تتمثل في:
- ثورة العولمة الاقتصادية، والتي ستقود إلى الفصل بين الاقتصادي والسياسي وتفَوُّقِ الأول على الثاني
- ثورة الاتصالات والمعلومات، التي تتسع حدودها على نحو مستمر وبطريقة تتعقد معها عملية التحكم بها وإدارتها
- الثورة الجينية، التي تسير نحو التأثير في الأجناس البشرية والنباتية والحيوانية، وتقلب بدورها مفاهيم الحياة والإنجاب وتحديد الأجناس الحيّة
- ثورة التقانة النانوية، التي ستسمح بتطبيقات كانت حتى فترة قريبة ضرباً من الخيال।
في هذا الواقع المعاصر يكتسب التعليم بصورة عامة والتعليم العالي بصورة خاصة أهمية قصوى في المجتمعات والدول الحديثة، وذلك لدوره في إحداث التطور الحضاري والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وأصبح التعليم يمثل مورداً استراتيجياً للمجتمعات الحديثة والذي يمد المجتمع بكافة احتياجاته من الكوادر العلمية والفنية المتخصصة، مما يجعله طاقة إنتاجية متنوعة وثروة متجددة ودائمة تؤدي إلى زيادة القيمة المضافة وتعزيز النمو الاقتصادي، والتي من شأنها تحقيق رفاهية المجتمعات ومحاربة الفقر.
إن القدرة على مواكبة التغير السريع في المجالات التقنية المعاصرة، يعتمد بشكل رئيس على الوعي بحجم التحديات والصعوبات التي تفرزها هذه التقنيات، والتي تحتاج إلى الكثير من الجهد والمتابعة والمثابرة لضمان مواكبتها والتفاعل مع قوانينها والسعي إلى الإفادة منها. ويعتبر الحقل الهندسي، والتعليم والتدريب المرتبط به من أكثر المجالات عرضة للتقادم وأشدها حاجة للمراجعة والتجديد والملاءَمة وذلك بحكم ارتباطه المباشر بالمجال التقني بل لعله يصنف ضمن العوامل المؤثرة في هذه التغيرات السريعة. ومن هنا تبرز الحاجة لمراجعة أساليب التعلم والتدريب في المجال الهندسي، لتواكب تحديات القرن الحاي والعشرين.
تاريح التعليم والجامعات
إن التعليم و التدريب يعدَّان من الأنشطة الاجتماعية الرئيسية التي تساهم في تكوين الإنسان وإعداده للعمل، مما ينعكس على تطور المجتمعات ورفاهيتها. مر التعليم و التدريب في مختلف العصور بمراحل مختلفة، إذ انتقلت مهامه من الأسرة إلي المعلمين الحرفيين و إلى المدارس والمعاهد والجامعات. وذلك بعد تطور تقنيات العمل ووسائله التي أصبحت تحتاج إلى معارف ومهارات متطورة.
استمر التطور الأكاديمي لأكثر من ملايين سنةٍ مما جعل له جذوراً عميقة، وليس من السهولة التغيير فيه. وفي المقابل، فإن مهنة الهندسة، كما تقاس على سبيل المثال بعمر كليات الهندسة الجمعيات المهنية الذي قد يمتد إلى قرن أو اثنين تعتبر أصغر سنا بكثير. وهكذا، يمكننا أن نعتبر أن التعليم الهندسي بمثابة تركيز لنهج جديدة في التعليم يتناول الحاجة والمشاكل المعاصرة.
كلمة "أكاديمية " باللغة الإنجليزية academic مستمدة من اسم من حديقة عامة في أثينا كان يملكها البطل اليوناني، Academus. أعطى Academus هذه الحديقة لأفلاطون قبل عدة سنوات من قبل ميلاد المسيح. حيث أقام فيها أفلاطون مسرحا للموجهين والطلاب لتبادل الأفكار وتطويرها، واقتراح فلسفات الحياة. ومن حينها حتى اليوم تعرف "الأكاديمية" بالمؤسسة التعليمية التي تعزز النمو الفكري. مهدت أكاديمية أفلاطون إلى "الجامعة" في عصرنا الحالي، والتى تمثل منتدى للبحث عن الحقيقة، وإنتاج المعرفة ، والقيام بالتواصل من أجل التعلم. فالأكاديمية لها طابع خاص نابع من أصولها وهو: المسؤولية المدنية لإجراء الحوارات المعنية بنزاع الأفكار وإختلافها. إن التواصل بين الدارسين والباحثين بهذا الأسلوب يشجع يحمي على حد سواء "الحدائق الفكرية" في العالم مستنداً على مبدأ حرية الفكر والتعبير، وحرية التعلم ، الاستفسار، والتحدي. إن إنتاج وإصدار المعرفة الجديدة لا يمكن أن يمضي قدماً دون هذه الحرية. إن مفهوم حرية البحث والتفكير والتحديات ذات الصلة من جميع وجهات نظر منسوبي الأكاديمية يعطي الجامعة طابعها الخاص والمتفرد. يعتمد الطابع الوطني والثروة الاقتصادية في مجتمعاتنا المعاصرة وفي الدول الديمقراطية خاصة على التداخل المستمرة بين التعلم وحرية تطبيق المعرفة مع كل المخاطر الفردية والجماعية. حيث اعتمد تأسيس نظام حكومات على بنيات سياسية أساسية تسمح وتشجع المواهب والرغبات الفردية على الازدهار تحقيقاً للرفاهية الاقتصادية.
شكلت الحياة في الأكاديمية من قبل التعاليم المبكرة لأفلاطون وطالبه الأكثر شهرة وأرسطو، وتمثلت في التحليل المركز أو الدراسة في مجال ضيق وبعمق، "الاختزال reductionism " أو "تجزئة المعرفة fractionization of knowledge ". مما جعل من الصعب بعض الشيء بالنسبة للأكاديمية التعامل مع مفهوم تكامل المعرفة، أو التوليف synthesis، والذي يمثل السمة المميزة لفلسفة مهنة الهندسة.
عبر تاريخ تطور الأكاديمية أصبحت إهتمامات العلماء والدارسين أكثر تخصصاً، وقد يكون أكثر مما كان يهدف إليه أفلاطون، وخصوصا في عصرنا الحالي جيث ازدهرت العلوم والتقانة وأوجدت مجالات فرعية تشتمل على العديد من التخصصات فرعية.
تتطور العلوم في القرن الحادي والعشرين تطلب وبشكل متزايد إزالة الحدود والحواجز بين التخصصات المختلفة ، حيث تزايد إنتاج المعرفة في الحدود المشتركة والمتداخلة بين التخصصات المختلفة. انسجاما، مع ذاك أصبحت هناك حاجة متزايدة لقيام الأكاديمية بتعليم الطلاب وتثقيفهم لرؤية العالم كوحدة واحدة، ومساعدتهم لفهم الترابط بين المجالات والتخصصات المتباينة، وتعليمهم التوليف في التوازن مع التحليل، وتعزيز قدراتهم لبناء علاقات بين عالم التعلم والعالم خارجي.
تحديات الجامعة في الزمن المعاصر
في عام 1944، كتب فيلسوف القرن العشرين، وخوسيه أورتيغا عن رسالة الجامعة التالي: "إن الحاجة إلى إنتاج توليفات سليمة ومنهجة المعرفة سوف يحتاج إلى نوعا من العبقرية العلمية التي كانت موجودة الآن فتمثل فقط انحرافا: وهي عبقرية تحقيق التكامل. يعني هذا بالضرورة التخصص، كما هو حال كل جهد خلاق ومبدع ، ولكن هذه المرة يكون الفرد متخصصاَ في بناء الجامع. الزخم الذي يملي التحقيق إلى أجل غير مسمى في فصل مشاكل معينة، ونضج الأبحاث، يحتم ضرورة التحكم التعويضي، كما هو الحال في أي منظمة صحية، الذي يفترض أن تقدمه قوة جذب في الاتجاه المعاكس، ويحجز علم الطرد المركزي في نفع المؤسسة ... إن اختيار الأساتذة لا يعتمد على رتبهم كباحثين ولكن على مواهبهم للإنتاج."
تحدث أورتيغا بصورة عامة من احتياجات المجتمع المستقبلية التي يجب ان تهتم بها الأكاديمية، كما بشر بالابتكارات التي نوقشت خلال عقد الثمانيات من القرن الماضي في للتعليم الهندسي. عامة يجب التفكير في ما يلي: سيصبح العالم أكثر إثارة وأكثر تعقيداً في القرن الحادي والعشرين. مما يتطلب الاهتمام بطبيعة العمل والاسترخاء المتطورة على نحو متزايد، وتزايد الاعتماد المتبادل بين الثقافات المختلفة، وانتشار وسائل الاتصال التي ستؤثر على الأساليب التي نفكر ونعمل بها، والصعود من الأمم ، المنضبطة وتعمل بجد، والتطلعات المتزايدة للدول الأقل نموا، و القلق على البيئة الهشة.
عامة يتطلب التعقيد التخصص في السعي لتحقيق الاكتشاف، مما يتطلب التعمق في فهمنا للعالم الحديث وإنتاج المعرفة اللازمة لحل المعضلات الراهنة وتحسين نوعية الحياة. في هذه العملية ، نقوم باستمرار بتجزئة المعرفة ، وتحليل أي جزء مهما أصغر بعمق أكبر وأكبر. تدريب الموظفين في القرن 20 بشكل جيد على هذه المهمة، مما يمثل موطن قوة عالمية يجب المحافظة عليها، ولكن ما هي المهارات الإضافية المطلوبة قي قادة القرن الحادي والعشرين؟
تمثل القدرة على الربط بين الاكتشافات التي تبدو متفاوتة، والأحداث، والاتجاهات، وإدماجها في السبل التي تعود بالنفع على المجتمع العالمي، السمة المميزة للعاملين في العصر الحديث. ويجب أن يمتلكوا ماهرات التوليف بالإضافة إلى مهارات التحليل، كما يجب أن يتسموا بالذكاء من الناحية التقنية. وداخل المجتمعات الجامعية، على وجه الخصوص ، يجب أن تتوفر بيئة فكرية وتعليمية تتيح للطلاب تطوير وعيهم حول تأثيرات التقنيات الناشئة، والتعامل مع الهندسة كعملية لا تتجزأ من عملية التغير الاجتماعي، وتحمل مسؤولية تقدم الحضارة.
العلم هو عملية اكتشاف وإنتاج المعرفة. بالإضافة إلى المشاركة في هذه العملية يتحمل المهندسون مسؤولة إضافبة متمثلة في تطبيق المعرفة الجديدة لإنتاج ما لم يكن معروفاً: تكامل الأفكار المبتكرة، والأجهزة، والنظم لتحقيق التغيير. في الواقع ، تمثل العلوم الهندسية عنصراً حاسماً من أدوات المهندس العقلية ، ولكن كما قال جاي دبليو فوريستر وبشكل واضح في عام 1967، "لقد أصبح المهندس منشغلا بالعلوم مما أدى إلى عدم التركيز على أهداف أكثر أهمية لسد الفجوة بين المقصورات المعزولة... ". وهكذا ، يجب ان تشتمل مهمة المعلمين الفكرية على زراعة القدرة عند كل طالب على جسر الحدود بين التخصصات المختلفة والقيام بالروابط التي تنتج أفكار أعمق. إن التعامل مع تعقيد كثير من المشاكل الهندسية والصناعية والاقتصادية والبيئية والسياسية والاجتماعية تحتاج إلى أفراد ذوي مهارات تقنية وكفاءة مهنية للعمل وفق نهج تكاملي لتحديد المشاكل وخلطها بعناية، والبحث عن حلول بديلة لها ، والمشاركة في تطبيقتها النهائية . وبعبارة أخرى ، هناك حاجة إلى التركيز على إنتاج تعليم شامل للطلاب وخاصة طلاب الجامعيين، وذلك لأن جوهر الهندسة باعتبارها مهنه يكمن في دمج جميع المعارف لغرض معين.
التعليم الهندسي الجديد:
يعتقد الكثيرون أن النهج الحالي للتعليم الهندسي غير ملائم ويقود الطلاب بعيداً ، لا سيما في السنوات الأولى. ملاحظة : "نقول للطالب المقبول لدراسة الهندسة، لقد درست الفيزياء، الكيمياء، الرياضيات، العلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية في المدرسة الثانوية وحصلت على القبول في كليتنا. الآن ستقوم بدراسة الموضوعات نفسها لمدة عام أو عاميين آخريين ؛ حتى يمكنك دراسة الهندسة.
المناهج الحالية لدراسة الهندسة تتطلب من الطلاب للتعلم في مجالات غير متصلة، ومقررات منفصلة لا توضح العلاقة بين بعضها بعضاً وعلاقتها بالهندسة إلا في وقت متأخر من فترة التعليم لدرجة البكالريوس. مما يجعل التعليم في مجال الهندسة يكون من أسفل إلى أعلى. فعلى سبيل المثال، في المكونات غير الموحدة، على الطالب دراسة الرياضيات والعلوم قبل "السماح" له بتأطير مشكلة هندسية، ويترك لوحده المضي قدما لبناء أي شيء. الشكل 1 يوضح هذا النظام التعليم الهندسي التقليدي، حيث يقدم التحديات للطلاب من خلال عدد بسيط من المرشحات كما هو موضح قي الشكل، وتمثل نوعا ً من عملية "المضايقات" على النقيض من التركيز على تطوير الإمكانات البشرية.
بالإضاف إلى ذلك، عادة ما يوصف التعليم الهندسي بمناهج دراسية مصممة لدراسة مجموعة من المواضيع يكون المهندس في "حاجة إلى معرفتها" ، مما يؤدي إلى استنتاج أن التعليم الهندسي هو عبارة عن مجموعة من المقررات. قد يكون محتوى هذه المقررات ذات قيمة عملية ومهنية ولكن هذا الشكل من التعليم الهندسي يتجاهل الحاجة للترابط والتكامل، والتي ينبغي أن تكون في صميم التعليم الهندسي.
إن التطور في محاكاة تخطيطات الحاسوب وتوفر قواعد المعلومات الواسعة وانتشار الرياضيات الرمزية مباشرة على شبكات المعلومات، يجعل من الممكن البدء في دراسة المواضيع الهندسة في السنة الأولى، وذلك قبل وقت طويل من إتقان الطالب العلوم الأساسية والرياضيات والتي تعتبر ضرورية لدراسة الهندسة. الشكل 2 يوضح أسلوب التعليم الهندسي هذا. وبهذا الأسلوب سيتعلم الطلاب أسلوب تحديد المشاكل، والنظر في الحلول البديلة، وينال قسطا من الخبرة في الإثارة والإحباط الناجمة عن التصميم الإبداعي، ومحدودية المعرفة، والانفتاح في إنتاج منتج أو نظام جديد.
وبهذه الطريقة سيكون لدى الدارسين الدافع لتعلَّم العلوم والرياضيات "الضرورية" "فقط في الوقت" الذي يحتاجون فيه لهذه المعرفة للاستفادة منها لفهم أساسيات هندسية. كما تتيح هذه الطريقة الربط بين الهندسة ، والفيزياء، والكيمياء وأساسيات علوم الحياة وغيرها من العلوم الانسانية والإجتماعية الداعمة في سياق تدريس جوهر الهندسة الأساسي. إن متابعة نموا مقدرات طالب لتحقيق النجاح في دراسته، كما هو موضح (الشكل 2) ، سيكون أكثر جدية وفعالية.
أصبحت اليوم محطات الحاسوب التخطيطية وبرامج التصميم المرتبطة بها من الضرورات التي تساعد على تطور التعليم "من أعلى إلى أسفل" أو "في خط الهجوم" أو "فقط في الوقت المناسب" أو "حسب الحاجة". ومن المتوقع في المستقبل القريب أن تكون برامج الحاسوب الموجهة للتخطيط هي نفس البرامج التي سيستخدمها الطلاب في وقت لاحق عندما يلتحق بالصناعة أو برامج الدراسات العليا. مما يجعل تطوير الهندسة كفرع متكامل أكثر مباشر على أساس استخدام المحطات التخطيطية كأداة تكاملية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق