لم أكن أتخيل أن تستيقظ المدن على صوت الرصاص، وأن يتحول الوطن الذي كنا نحلم ببنائه ... وطن شامخ حر ديمقراطي ....إلى لوحة قاتمة مغموسة في الدم والدمار. الحرب التي اندلعت في السودان لم تكن مجرد حدث سياسي أو صراع مسلح بين أطراف متنازعة، بل زلزال شخصي هز أعماقي، كإنسان ومواطن، وهدم تفاصيل الحياة اليومية التي كنت أظنها ثابتة.
دهشة البداية
كانت البداية كالحلم السيء الذي ننتظر أن نصحو منه. في صباح 15 أبريل 2023، بدأ صوت الرصاص يعلو في سماء الخرطوم. اعتقدت في البداية أنه اشتباك محدود، لكنه لم يتوقف. الدهشة الأولى كانت صامتة، مشوبة بإنكار داخلي: "لا يمكن أن تبدأ حرب فعلية في قلب العاصمة". لكن الحقيقة كانت أمامنا، جلية وقاسية.
فوضى الانهيار
شيئاً فشيئاً بدأ كل شيء ينهار. انقطع التيار الكهرباي .. وانسياب المياه ...توقفت شبكات الاتصالات، أغلقت المتاجر، وغاب الأمن. رأيت بأم عيني كيف يتحول الجار إلى لاجئ، وكيف يفر الناس من أحياء كانت نابضة بالحياة، يحملون ما خف من متاع ويتركون خلفهم ذكرياتهم. عايشت مرارة النزوح، ومعها شعور غريب بالذنب لأنني نجوت بينما ظل آخرون تحت القصف.
مغادرة الدفء إلى المجهول
لم يكن النزوح قرارًا، بل خضوعًا قاسيًا لواقع فرض نفسه بالقوة. لحظة مغادرة المنزل كانت أشبه بخلع جزء من الروح. خرجنا ونحن نعلم أننا نترك خلفنا ذكرياتنا، دفء الجدران التي شهدت ضحكاتنا، وروائح القهوة في الصباح، وصوت الراديو في المساء. البيوت لا تكون مجرد جدران، إنها الحاضن الصامت لكل لحظة حية عشْناها.
البلدة نفسها بدت حزينة، كأنها تودع أبناءها بصمت. الطرقات التي كنا نمر بها يوميًا بدت غريبة، مهجورة، كأنها فقدت معناها دوننا. النوافذ المغلقة، الأبواب التي أُوصِدت على عجل، الأشجار التي لم يعد أحد يمر بجانبها… كل شيء كان يصرخ في صمت: "إلى أين؟ ولماذا؟"
القلوب مثقلة، والعين خلف الزجاج تتعلق بآخر نظرة نحو المكان الذي قد لا نعود إليه أبدًا. كانت الخطى ثقيلة، محمّلة بالخوف والحنين والخذلان. خذلان الدولة، خذلان الحلم، وخذلان الأمان.
لكن حتى في هذه اللحظة القاسية، لم تغب الإرادة. نزعنا جذورنا من الأرض قسرًا، لكننا حملناها معنا في قلوبنا، على أمل أن نعود يومًا، ونزرعها من جديد، في بلدة تعرفنا وتحن إلينا كما نحن نشتاق إليها.
غياب أصوات الفرح والإبداع
الحرب سرقت أكثر من الأمان والذكريات. كان أكثر ما يؤلم هو غياب أصوات الفرح والإبداع التي كانت تعج بها شوارعنا. لا مزيد من ضحكات الأطفال في الزوايا، ولا نغمات الآلات الموسيقية التي كانت تملأ الأمسيات. توقف الفن، وتوقف الأمل. الثقافة التي كانت تزدهر في كل ركن، والشعر الذي كان ينبت بين الكلمات، أصبحا معلقين في الهواء، في انتظار زوال العاصفة.
أصبحت المدينة ساحة صمت رهيب، لا تُسمع فيها سوى أصوات الدمار والأنين. الفنانون أصبحوا مهجرين، والحكايات التي كانت تحكى على المقاهي، وتُغنى في الأزقة، أصبحت ذكريات نراها في عيوننا. كان غياب الإبداع أشد قسوة من غياب الأمن، لأنه كان يرمز إلى فقداننا لروحنا.
التفرق والشتات
من آثار الحرب التي شهدناها كان التفرق الذي مسّ الأسر، وخاصة النساء. فالمرأة السودانية كانت دوماً تشكل الدعامة الأساسية للأسرة، ولكن مع الحرب، فقدت العديد من الأسر تماسكها. انفصلت الأسر، وركضت النساء إلى المجهول، يحملن أطفالهن، في سعي للنجاة بينما تتفرّق العائلات، وتتشتت الأحلام. هذا التفرق لم يكن مجرد انفصال جسدي، بل كان انفصالاً نفسياً وثقافياً أيضاً.
لقد تفرّقت الكثير من العلاقات الأسرية تحت وطأة الحرب، وأصبحنا نرى عائلات تفقد توازنها، والنساء يجدن أنفسهن في مواجهة تحديات جديدة غير مسبوقة، حيث عليهن التعامل مع مسؤوليات جديدة من العناية بالأطفال وإدارة الحياة اليومية وسط الفوضى، دون دعم أسري أو اجتماعي. في تلك اللحظات، كانت النياء السودانيات يثبتن في مواجهة التحديات، ولكن كان الأمل يبدو بعيداً في كثير من الأحيان.
الهوس بالقتل: دمار النفس والروح في زمن الحرب
في خضم العنف والدمار، تسيدت الحرب مشهدًا مرعبًا من الهوس والتلذذ بالقتل. لم تعد المعركة مجرد صراع بين أطراف متنازعة، بل تحولت إلى حالة مرضية، حيث بدا البعض مستمتعًا بالموت والدمار الذي يُحصد على الأرض. تحول القتل إلى فعل عادي، بل صار مَشْهداً شهيرًا يُثير الإثارة في نفوس من فقدوا أي إحساس بالإنسانية.
كان هناك من يذهب إلى أبعد من مجرد الحروب العسكرية، ليغرق في متعة وحشية، وكأنها لعبة بلا قوانين. الدماء التي كانت تغطي الشوارع لم تعد تعني شيئًا، حتى البسمة على وجه الضحية كانت تتحول إلى مصدر تهكمٍ وتسلية لأولئك الذين فقدوا عقولهم وسط فوضى الحرب. تحولت النفوس البشرية إلى كائنات شبه ميّتة، تقف أمام منظر الموت دون أن تهتز أو تتأثر. ما كان يوماً من أخطر المحرمات أصبح الآن حدثًا يوميًا يتداول بين من لا ضمير لهم.
إن هذه الحالة من الهوس والتمتع بالموت والدمار تعكس تدهوراً عميقاً في الأخلاقيات والإنسانية، حيث يطغى النزاع على العقل، وتفقد الروح القدرة على الشعور بالعذاب الذي يتسبب فيه. تصبح الحرب بمثابة عدوى تنتشر داخل النفس البشرية، تُحوّل الأفراد إلى آلات قتل بلا رحمة، تحصد الأرواح وتترك وراءها تدميرًا نفسيًا لا يمكن تصحيحه بسهولة.
أحزان لا توصف
في الحرب، لا يوجد منتصر حقيقي. حتى من ينجو، يخرج منها مثقلاً بالخسارات. فقدنا الأصدقاء، الأحباب، الأمان، وحتى أحلامنا. رأيت أطفالاً لم يعرفوا معنى الطفولة، ونساء يحملن على أكتافهن عبء بيوت مدمرة، وشيوخاً يسألون: "أين الدولة؟ أين نحن؟"
دهشة الصمود
ورغم كل ذلك، وسط الأنقاض، كانت هناك دهشة أخرى: دهشة الصمود. رأيت كيف يتعاون الناس رغم الجوع والخوف، كيف يتقاسمون الرغيف والماء، وكيف تصير الإنسانية طوق النجاة في غياب كل شيء. علمتني الحرب أن الإنسان يمكن أن يضيء ظلمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق