الخميس، 17 أبريل 2025

دور مراكز التدريب في تجاوز آثار الحرب: نحو إعادة بناء الإنسان والمجتمع

مقدمة

تشكل الحروب والنزاعات المسلحة كوارث اجتماعية واقتصادية تهدم البنية التحتية وتؤدي إلى تفكك النسيج المجتمعي، وتخلف وراءها جيوشًا من العاطلين والمشردين والنازحين، ناهيك عن التحديات النفسية والإنسانية. وفي ظل هذا الواقع، تبرز مراكز التدريب المهني والفني كأدوات استراتيجية تلعب دورًا محوريًا في مرحلة ما بعد الحرب، وتسهم بفعالية في إعادة بناء الإنسان والمجتمع وتعزيز سبل العيش الكريم [1].

1. إعادة تأهيل الكوادر البشرية

من أولويات التعافي بعد الحرب توفير فرص لإعادة تأهيل الأفراد، خصوصًا الشباب والنساء والنازحين، وتزويدهم بمهارات عملية تساعدهم على الدخول إلى سوق العمل. تقدم مراكز التدريب برامج متخصصة في الحرف والصناعات الصغيرة والمهن اليدوية [2]، مما يمكّن الفئات المتضررة من الاعتماد على الذات وكسب الرزق بطريقة كريمة، بعيدًا عن الاتكال على المعونات الإنسانية.

2. دعم الاقتصاد المحلي وبناء سبل العيش

تعمل مراكز التدريب على دعم الاقتصاد المحلي من خلال خلق كوادر مؤهلة قادرة على تلبية احتياجات سوق العمل [3]. كما تشجع ريادة الأعمال من خلال توفير التدريب في إدارة المشاريع الصغيرة، مما يعزز من قدرة الأفراد على تأسيس مشاريعهم الخاصة والمساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي [4].

3. تعزيز التماسك الاجتماعي والمصالحة

في المجتمعات المنقسمة بسبب الصراعات، توفر مراكز التدريب مساحات للتلاقي والتعاون بين أفراد المجتمع من مختلف الخلفيات والمناطق، مما يساهم في بناء الثقة وتعزيز التفاهم [5]. كما تدرج بعض المراكز موضوعات السلام وحل النزاعات ضمن برامجها، ما يسهم في نشر ثقافة التسامح ونبذ العنف.

4. الإسهام في إعادة الإعمار

تحتاج عمليات إعادة الإعمار إلى كوادر مدربة في مجالات الكهرباء، البناء، السباكة، الزراعة، والطاقة المتجددة [6]. وهنا يأتي دور مراكز التدريب التي تجهز الفنيين والعمال المهرة للمشاركة في إصلاح ما دمرته الحرب، مما يجعلها شريكًا حيويًا في جهود التنمية الوطنية.

5. تمكين الفئات الأكثر تأثرًا بالحرب

تولي مراكز التدريب اهتمامًا خاصًا بالفئات الهشة، مثل النساء، الأطفال، وذوي الإعاقة، عبر تصميم برامج تراعي احتياجاتهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية [7]. هذا التمكين يعزز من مشاركتهم في المجتمع ويقلل من التهميش ويعطيهم الفرصة للمساهمة في بناء السلام والتنمية.

6. بناء ثقافة السلام والتنمية المستدامة

من خلال دمج مفاهيم حقوق الإنسان، المواطنة، التسامح، والعمل الجماعي في مناهج التدريب، تسهم هذه المراكز في بناء وعي جديد يقوم على السلام والعدالة والتنمية المستدامة، وهي شروط أساسية لتفادي تكرار الحروب وتعزيز صمود المجتمعات [5].

دراسة حالة: السودان بعد حرب 2023 – فرص لمراكز التدريب في التعافي وإعادة البناء

شهد السودان منذ أبريل 2023 حربًا مدمرة تسببت في دمار واسع للبنية التحتية، ونزوح الملايين، وتوقف شبه كامل للأنشطة الاقتصادية والتعليمية. وفي ظل هذا الواقع المأساوي، تظهر مراكز التدريب المهني والتقني كرافعة أساسية لإعادة بناء ما دمرته الحرب [8].

إعادة تأهيل النازحين والشباب: يمكن لمراكز التدريب في المدن المستقرة مثل كسلا والقضارف، وبورتسودان وعطبرة أن تسهم في إعادة تأهيل الشباب وتزويدهم بمهارات الكهرباء، الطاقة الشمسية، الأعمال الحرفية، وصيانة الأجهزة [4].


تمكين النساء: بتعليم النساء مهارات عملية مثل الخياطة، صناعة الصابون، والتسويق الرقمي، يمكن تحويلهن إلى فاعلات اقتصاديات مستقلات، خاصة في ظل غياب المعيل [7].


مبادرات محلية ودولية: رغم التحديات، ظهرت مبادرات شبابية ومنظمات مثل اليونيسف لدعم التدريب في مناطق النزوح، لكنها ما زالت محدودة وتحتاج إلى توسيع وتمويل [6].


تحديات وفرص: بينما تعاني المراكز من ضعف البنية التحتية، يمكن اغتنام الفرصة لبناء نظام تدريبي حديث يعتمد على الشراكات، التدريب الرقمي، وربط التدريب بالحاجات المحلية [8].


تجارب دولية ناجحة

1. رواندا بعد الإبادة الجماعية (1994):

أطلقت رواندا برنامجًا وطنيًا للتدريب المهني يركز على الشباب والنساء والناجين، مما ساعد في تقليص نسب البطالة، وتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، وبناء اقتصاد قائم على المعرفة [3].

2. البوسنة والهرسك بعد حرب البلقان:

ساهمت مراكز التدريب، بدعم من الاتحاد الأوروبي، في إعادة تأهيل العاطلين عن العمل، ودمج النازحين في الاقتصاد المحلي من خلال التدريب على المهن الحرفية والزراعة [2].

3. سيراليون وليبيريا بعد الحروب الأهلية:

اعتمدت مراكز التدريب على نهج "التدريب مقابل العمل"، حيث يتلقى المشاركون تدريبًا وينفذون مشاريع إعادة إعمار، مما أسهم في دمجهم الاجتماعي وتوفير دخل مستدام [6].

توصيات عملية للسودان

إدماج التدريب المهني في خطة التعافي الوطنية كأداة رئيسية لإعادة البناء وتمكين الفئات المتأثرة [1].


توسيع الشراكات بين الدولة، القطاع الخاص، والمنظمات الدولية لدعم إنشاء مراكز تدريب حديثة [4].


اعتماد التدريب الرقمي والتعليم عن بُعد لتجاوز تحديات التنقل والبنية التحتية [8].


تصميم برامج تدريب مرنة وموجهة للفئات الهشة مثل النساء، النازحين، وذوي الإعاقة [7].


دمج مفاهيم المصالحة والسلام في مناهج التدريب لتعزيز التعايش المجتمعي [5].


تقييم سوق العمل المحلي لتوجيه التدريب نحو المجالات ذات الأولوية (مثل الطاقة، الزراعة، الخدمات) [2].


تحفيز ريادة الأعمال من خلال برامج تدريبية وتمويلية للمشروعات الصغيرة [3].


خاتمة موسعة

تُثبت التجارب المحلية والعالمية أن التعافي الحقيقي بعد الحروب لا يبدأ بالإعمار المادي فقط، بل بإعادة بناء الإنسان وتأهيله ليكون فاعلًا في مجتمعه، متصالحًا مع نفسه والآخر، ومنتجًا على كافة المستويات [1]، [5]. وفي هذا الإطار، تبرز مراكز التدريب المهني والفني بوصفها حجر الزاوية في مسار الانتقال من الدمار إلى التنمية، ومن الفوضى إلى الاستقرار [6].

بالنسبة للسودان، فإن مراكز التدريب لا تمثل مجرد مرافق تعليمية، بل أدوات للتحول المجتمعي، تزرع الأمل في قلوب الملايين من الشباب والنازحين والنساء، وتفتح لهم أبوابًا جديدة للعيش الكريم والكرامة الإنسانية [8]. فمع كل شاب يتعلم مهنة، وكل امرأة تكتسب مهارة، وكل مجموعة تُنظم حول مشروع تدريبي جماعي، تُبنى لبنة جديدة في صرح السلام والتنمية.

ومع استمرار الحرب وتداعياتها، فإن الحاجة إلى تبني استراتيجية وطنية شاملة لتوسيع ودعم مراكز التدريب أصبحت أمرًا ملحًا. ينبغي أن تكون هذه المراكز جزءًا أصيلًا من خطط التعافي وإعادة الإعمار، لا ملحقًا مؤقتًا، بل شريكًا رئيسيًا في صياغة مستقبل أكثر عدالة وشمولًا واستدامة [4].

إن السودان، بتاريخه النضالي، وطاقات شبابه، وثراء مجتمعاته، قادر على تجاوز هذه المحنة. وستكون مراكز التدريب هي المعبر نحو هذا التجاوز، إذا ما وُضعت في قلب الرؤية الوطنية للتحول بعد الحرب.

المراجع

[1] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP). Rebuilding Livelihoods after Conflict: The Role of Vocational Training, 2015.
[2] البنك الدولي. Skills Development in Post-Conflict Countries, 2013.
[3] ILO – International Labour Organization. Skills Development in Fragile and Conflict-Affected Situations, 2020.
[4] وزارة العمل والتنمية الاجتماعية السودانية. استراتيجية التدريب المهني في السودان 2018–2023.
[5] Rwanda Development Board. Technical and Vocational Education and Training Policy, 2015.
[6] UNHCR Sudan. Livelihoods Programmes in Sudan: Supporting Displaced Communities, 2022.
[7] GIZ. Vocational Education and Training in Africa: Rwanda and Sierra Leone Cases, 2021.
[8] خالد مصطفى (2024). التعافي بعد الحرب في السودان: التحديات والآفاق. مركز الدراسات السودانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق