الخميس، 17 أبريل 2025

أمن الطاقة في السودان ودور الطاقة الشمسية كمصدر رئيسي للطاقة


مقدمة يعاني السودان منذ عقود من تحديات متراكمة في قطاع الطاقة، تشمل ضعف الإنتاج، وسوء التوزيع، وغياب الاستثمارات الكافية، مما أدى إلى انخفاض معدلات الحصول على الكهرباء وارتفاع الاعتماد على مصادر تقليدية وغير مستدامة [1][2].


تطور قطاع الطاقة في السودان منذ الاستقلال منذ استقلال السودان عام 1956، تم تنفيذ بعض المشروعات الكبرى مثل خزان الروصيرص وخزان سنار لتوليد الطاقة الكهرومائية، وشهدت فترات متقطعة من التوسع في البنية التحتية. إلا أن غياب التخطيط الاستراتيجي، والاعتماد على المانحين، وضعف الصيانة، حال دون تحقيق نمو متوازن ومستدام في هذا القطاع. كما ساهمت الاضطرابات السياسية والصراعات في تقويض فرص التطوير الحقيقي [3].


الوضع الراهن لقطاع الطاقة تعتمد منظومة الطاقة في السودان بشكل رئيسي على ثلاثة مصادر: الطاقة الكهرومائية، والحرارية (الوقود الأحفوري)، والطاقة الحيوية (الحطب والفحم النباتي). وتمثل الطاقة الكهرومائية حوالي 40% من الإنتاج، بينما تغطي المحطات الحرارية النسبة المتبقية. وتعاني المنظومة من تهالك البنية التحتية، وانقطاعات متكررة للتيار الكهربائي، وضعف الربط القومي بين المناطق [4].


تأثير حرب أبريل 2023 على قطاع الطاقة أدت الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 إلى دمار واسع في البنية التحتية، بما في ذلك منشآت الكهرباء وشبكات التوزيع، خاصة في العاصمة الخرطوم ومناطق النزاع. وتسببت في توقف محطات التوليد عن العمل، وصعوبة صيانة الأعطال، وخروج الكوادر الفنية من الخدمة، وانقطاع الإمداد بالوقود. كما أدى النزوح الجماعي إلى مناطق أقل تجهيزاً إلى زيادة الضغط على الشبكات الضعيفة أصلاً [5].


إحصائيات الطاقة في السودان مقارنة بالدول المجاورة وفقاً لتقارير البنك الدولي والوكالة الدولية للطاقة، يُنتج السودان ما يقارب 3,000 ميغاواط من الكهرباء، منها 1,200 ميغاواط من الطاقة الكهرومائية. يقدر معدل استهلاك الفرد السنوي من الكهرباء بحوالي 100 كيلوواط/ساعة فقط، مقارنة بـ 450 كيلوواط/ساعة في مصر، و900 كيلوواط/ساعة في السعودية. كما أن حوالي 55% فقط من السكان تصلهم الكهرباء، تنخفض النسبة إلى أقل من 20% في المناطق الريفية [1][2][4].


مصادر الطاقة الرئيسية في السودان


الطاقة الكهرومائية: الخزانات الرئيسية مثل الروصيرص ومروي.


الطاقة الحرارية: تعتمد على الوقود المستورد والمشتقات البترولية.


الطاقة الحيوية: لا تزال تُستخدم من قبل أكثر من 60% من السكان، وتشمل الحطب والفحم النباتي، خاصة في المناطق الريفية [3][4].


الطاقة الشمسية وطاقة الرياح: لم يتم استغلالها إلا بنطاق محدود.


الطاقة الشمسية كخيار استراتيجي يمتلك السودان واحدة من أعلى معدلات الإشعاع الشمسي في العالم، بمتوسط 6.5 كيلوواط/متر مربع يوميًا، مما يجعله مؤهلاً للاستثمار في الطاقة الشمسية على نطاق واسع. ويمكن لهذه الطاقة أن تسد الفجوة في الإمداد، خاصة في المناطق النائية، وتوفر مصدرًا نظيفًا ومستدامًا للطاقة، وتقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري المستورد [6].


التحديات والفرص تتمثل التحديات في ضعف التمويل، وغياب السياسات الحكومية الواضحة، والافتقار إلى البنية التحتية والتقنية. أما الفرص فتشمل وجود سوق كبيرة للطاقة، وطلب متزايد، وإمكانية الشراكة مع القطاع الخاص والمنظمات الدولية لتوفير تمويل ودعم تقني [2][5].


الخلاصة يُعد التحول إلى الطاقة الشمسية خيارًا حتميًا لمعالجة أزمات الطاقة في السودان وتحقيق أمن الطاقة. ويتطلب ذلك تبني استراتيجيات وطنية واضحة، وتوفير الحوافز للاستثمار في هذا القطاع الحيوي [6].


المراجع 

[1] البنك الدولي. "الطاقة في السودان: التحديات والفرص." 2022. 

[2] International Energy Agency. "Sudan Energy Profile." IEA, 2023.


 [3] وزارة الطاقة والنفط السودانية، تقرير الأداء السنوي، 2021. 

[4] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، تقرير التنمية البشرية في السودان، 2022. 


[5] African Development Bank. "Sudan: Energy 

Sector Diagnostic Report." AfDB, 2021. 

[6] Renewable Energy for Africa. "Solar Potential in Sudan," REA Report, 2020.

قراءة في العلاقة بين الإمارات وحكومة بورتسودان بعد اندلاع الحرب


1. مدخل

بعد اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، برزت مدينة بورتسودان، عاصمة ولاية البحر الأحمر، كمركز بديل للحكومة السودانية بعد انسحابها من الخرطوم. وفي خضم هذا التحول، تعززت العلاقة بين حكومة بورتسودان ودولة الإمارات العربية المتحدة، في سياق إقليمي ودولي بالغ التعقيد. تهدف هذه الورقة إلى تحليل طبيعة هذه العلاقة ،من خلال تتبع المصالح المتبادلة والمواقع الطبقية والهيكلية التي تحكمها، ودور القوى الإقليمية والدولية في إعادة إنتاجها.

2. ملامح الدعم الإماراتي لحكومة بورتسودان

رغم التقارير المتعددة التي تشير إلى دعم إماراتي لقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي [1][2]، فإن علاقات الإمارات بحكومة بورتسودان لم تنقطع. بل شهدت تنسيقًا لوجستيًا واقتصاديًا مهمًا، شمل:

دعم قطاع الصحة عبر الهلال الأحمر الإماراتي في بورتسودان.


تعاون مع وزارات النقل والطيران المدني السودانية.


اهتمام إماراتي متجدد بالموانئ السودانية، خصوصًا ميناء أبو عمامة الجديد [3].


زيارة مسؤولين إماراتيين ولقاء قيادات الحكومة القائمة في بورتسودان.


هذا يُظهر أن العلاقة ليست علاقة دعم سياسي مطلق، بل تحكمها المصالح الاقتصادية والجيوسياسية، خصوصًا مع التنافس الإقليمي على البحر الأحمر.

3. التناقض بين الدعم الإماراتي وعداء بورتسودان للإمارات

رغم هذا التعاون، برز خطاب حكومي من بورتسودان يُلمّح إلى عداء تجاه الإمارات، متهمًا إياها بدعم قوات الدعم السريع وتغذية الصراع. هذا التناقض يُمكن تفسيره من منظور واقعي – براغماتي: الحكومة في بورتسودان مضطرة إلى التعامل مع الإمارات كممول وشريك اقتصادي مؤثر، لكنها تسعى في الوقت نفسه إلى تحشيد الدعم السياسي المحلي والإقليمي عبر إظهار موقف "سيادي" ضد التدخلات الخارجية، خاصة في ظل تصاعد الغضب الشعبي تجاه الدعم الخارجي لقوات الدعم السريع.

4. دور القوى الإقليمية والدولية

إلى جانب الإمارات، تلعب قوى إقليمية ودولية دورًا مركزيًا في تشكيل هذه العلاقة:

مصر تدعم بوضوح حكومة بورتسودان وتسعى لضمان عدم انتقال الصراع إلى البحر الأحمر، كما تخشى من هيمنة قوات الدعم السريع ذات الخلفية غير المؤسسية.


السعودية تمارس توازنًا حساسًا، فهي حليف للإمارات لكنها تدعم مسار جدة التفاوضي وتستضيف قيادات مدنية.


قطر تتحرك بحذر وتُبقي على علاقاتها مع مختلف الأطراف.


الولايات المتحدة وبريطانيا تميلان للضغط من أجل تسوية سياسية، مع تفضيلهما لحكومة مدنية تشمل جميع القوى.


روسيا تحاول توسيع نفوذها عبر اتفاقيات بحرية في بورتسودان، وقد استفادت من الفوضى لتعزيز علاقاتها مع الجيش.


الاتحاد الأوروبي يدعم المسار السياسي وعمليات الإغاثة الإنسانية، ويضغط ضد الانتهاكات.


الصين تراقب الوضع من منظور مصالح اقتصادية طويلة الأمد، وتحتفظ بعلاقات متوازنة مع كافة الأطراف.


تركيا تحتفظ بموقع رمادي، لكنها تحاول الاستفادة من حالة التنافس على الموانئ ومواقع النفوذ البحري.


5. تحليل لطبيعة العلاقة

تُشكّل العلاقة بين الإمارات وحكومة بورتسودان نموذجًا واضحًا لتجليات "الإمبريالية الجديدة"، حيث لا تُمارَس السيطرة من خلال الاحتلال المباشر، بل عبر أدوات اقتصادية واستثمارية وأمنية تُعيد إنتاج التبعية. الإمارات، بوصفها قوة رأسمالية ناشئة، تستخدم أدوات التمويل، والموانئ، والدعم اللوجستي لتأمين مصالحها في السودان، لا سيما في المناطق الاستراتيجية مثل البحر الأحمر.

في هذا السياق، تظهر حكومة بورتسودان بوصفها مثالًا على "البرجوازية الكمبرادورية" – أي تلك النخبة الحاكمة التي ترتبط مصالحها مباشرة برأس المال الأجنبي، وتلعب دور الوسيط بين الإمبريالية ومقدرات الدولة الوطنية. هذه الطبقة لا تمثّل مصالح الشعب أو التنمية المستقلة، بل تعيد تدوير التبعية وتكريس التفاوت الطبقي والاجتماعي، وتُخضع السيادة الوطنية لضرورات الرأسمال الخارجي.

كما يُمكن فهم سلوك الإمارات في السودان، خاصة في مناطق الموارد والموانئ، كجزء من "التراكم الإمبريالي" احيث تُستغل هشاشة الدولة الطرفية، وضعف مؤسساتها، والصراعات الداخلية فيها لفرض ترتيبات اقتصادية تخدم مراكز رأس المال وتُقصي قوى الداخل عن التحكم في مواردها. هذه الديناميات تعيد إنتاج علاقات الإنتاج غير العادلة وتُطيل من عمر الدولة التابعة، مما يعمّق الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في السودان.

6. السيناريوهات المستقبلية

أمام هذه العلاقة المعقدة، يمكن تصور عدد من السيناريوهات:

الاستمرار في التعاون البراغماتي: تحتفظ الإمارات بعلاقات مزدوجة مع الطرفين، وتواصل حكومة بورتسودان التنسيق الاقتصادي رغم الخلاف السياسي.


تصاعد التناقض: في حال انكشاف دعم الإمارات للدعم السريع بشكل مفضوح، قد تسعى حكومة بورتسودان إلى تصعيد الموقف ضدها، مما يخلق أزمة دبلوماسية.


إعادة التوازن عبر طرف ثالث: قد تدخل أطراف مثل السعودية أو مصر للوساطة بين الإمارات وبورتسودان للحفاظ على التوازن في البحر الأحمر.


7. خاتمة

العلاقة بين الإمارات وحكومة بورتسودان ليست مجرد تفاعل دبلوماسي تقليدي، بل تعبير عن صراع طبقي وتجاذب مصالح داخل سياق إقليمي ودولي معقد، يتجلّى هذا التفاعل كجزء من سيرورة تراكم رأسمالي غير عادل، تُستغل فيه الدولة الهشة وتُهمَّش فيه قوى الداخل لصالح تحالف برجوازي كمبرادوري مع رأس المال الإمبريالي. فهم هذه الديناميات شرط لفهم مستقبل السودان السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

المراجع

[1] A. Ibrahim, “UAE accused of arming Sudan’s Rapid Support Forces,” Al Jazeera, 2023. [Online]. Available: https://www.aljazeera.com/news

[2] R. Walsh, “Sudan conflict: The UAE’s controversial role,” BBC News, Oct. 2023. [Online]. Available: https://www.bbc.com/news

[3] M. Elhaj, “UAE signs port development deal in eastern Sudan,” Reuters Africa, Jan. 2024. [Online]. Available: https://www.reuters.com/africa

[4] D. Harvey, The New Imperialism, Oxford University Press, 2003.

[5] V. Lenin, Imperialism, the Highest Stage of Capitalism, International Publishers, 1917.

[6] S. Amin, Capitalism in the Age of Globalization, Zed Books, 1997.

أزمة السودان والاسلام السياسي

 

 1. مدخل عام

منذ انقلاب 30 يونيو 1989، دخل السودان في نفق مظلم نتيجة لسيطرة الإسلام السياسي على مفاصل الدولة. لم يكن المشروع الذي تبنّته الجبهة الإسلامية القومية سوى إعادة إنتاج لدولة سلطوية بثوب ديني، حيث استُخدم الدين كأداة للتمكين السياسي والاقتصادي. وقد ترك هذا النظام بصماته على كل جوانب الحياة السودانية: من الاقتصاد إلى التعليم، ومن الإعلام إلى الجيش.

2. الإسلام السياسي والرأسمالية الطفيلية

اتسم النظام الذي أسسته الجبهة الإسلامية بقيادة حسن الترابي لاحقاً بتحالفه العميق مع قوى الرأسمالية الطفيلية، وهي قوى اقتصادية لا تنتج بل تعيش على استغلال موارد الدولة والصفقات المشبوهة. نمت هذه الرأسمالية عبر الخصخصة غير الرشيدة، واحتكار شركات الأمن والجيش للاقتصاد، مما أدى إلى تدهور الإنتاج الزراعي والصناعي لصالح اقتصاد ريعي مشوّه [1].

3. التحالف مع النخب العسكرية

لم يكن للإسلام السياسي أن يستمر في الحكم دون تحالفه مع النخب العسكرية. تم إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية بحيث يتم تطويعها عقائدياً من خلال تجنيد الكوادر الإسلامية، ومنح الامتيازات الاقتصادية، وتأسيس منظومات صناعية وتجارية تابعة للمؤسسة العسكرية [2]. وهكذا، أصبح الجيش شريكاً في السلطة والثروة، لا حامياً للدستور.

4. أسلمة الدولة وقمع التنوع الثقافي والديني

روّج النظام لمفهوم "الدولة الإسلامية"، وهو ما أدى إلى قمع التنوع الثقافي والديني واللغوي في السودان. تم فرض قوانين الشريعة الإسلامية بشكل انتقائي، واستُخدمت لشرعنة القمع السياسي والاجتماعي، خاصة ضد النساء والأقليات الدينية والثقافية [3].

5. الإعلام والتعليم كأدوات أيديولوجية

تمت السيطرة على أجهزة الإعلام والمؤسسات التعليمية وتحويلها إلى أدوات لنشر أيديولوجيا النظام. تم تشويه المناهج لتتماشى مع مفاهيم "المشروع الحضاري"، بينما تم التضييق على حرية التعبير والبحث العلمي. تحول التعليم إلى وسيلة للغسل الأيديولوجي بدلًا من كونه أداة للتنوير والتنمية [4].

6. تحالفات الإسلام السياسي مع الميليشيات لقمع الجماهير

اعتمد نظام الإسلام السياسي على تشكيل وتحالفات مع ميليشيات مسلحة لقمع الحراك الجماهيري والمعارضة السياسية، خصوصاً بعد توسع المقاومة المدنية. فقد أسس النظام "قوات الدفاع الشعبي" في التسعينيات، ثم توسّع لاحقاً في تسليح قبائل موالية في دارفور، مما مهّد لتأسيس "قوات الدعم السريع" بقيادة حميدتي، والتي شاركت في قمع الثورة السودانية وفض اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019، وأسفر عن مقتل أكثر من 120 شخصاً وفق تقارير طبية مستقلة [5].

7. أزمة ما بعد الثورة واستمرار التمكين

رغم سقوط رأس النظام في 2019، إلا أن الدولة العميقة ظلت متجذرة، خاصة في الأجهزة الأمنية والاقتصادية. فشل التحول الديمقراطي نتيجة للثقل المزدوج: المؤسسة العسكرية من جهة، وبقايا الإسلاميين من جهة أخرى، وهو ما أدى لانقلاب 25 أكتوبر 2021 واستمرار حالة اللااستقرار السياسي والاقتصادي.

إن تحالفات الإسلام السياسي مع الميليشيات المسلحة لم تكن مجرد وسائل أمنية أو تكتيكات ظرفية، بل تعبّر عن جوهر أيديولوجي يقوم على نفي الجماهير كمصدر للشرعية، واستبدالها بطبقة أمنية–ميليشياوية. بدلاً من بناء شرعية دستورية ديمقراطية، لجأ النظام إلى خلق شبكات زبائنية ومليشياوية تمارس العنف باسم الدين أو حماية "المشروع الحضاري". وعليه، فإن تفكيك هذا التحالف يتطلب تفكيكاً أيديولوجياً شاملاً وبناء دولة مدنية ديمقراطية.

المراجع:

[1] م. الطيب, التمكين في السودان: الإسلاميون وإعادة تشكيل الدولة, دار المصورات, 2018. 

[2] خ. أحمد, "الرأسمالية الطفيلية في السودان: دراسة حالة ما بعد التمكين", مجلة الاقتصاد السوداني، العدد 12، 2020.

[3] A. Young, The Sudanese State: Ethnicity, Religion, and Identity, Palgrave Macmillan, 2019. 

[4] ف. حسن, "التيارات الإسلامية في السودان: النشأة والتطور", مركز دراسات الوحدة العربية 2010

[5] Sudan Doctors Committee, "June 3 Massacre Report", Khartoum, 2020.

تحديات الفكر الماركسي في ظل الاقتصاد الرقمي

يشهد العالم اليوم تحولًا هائلًا في الأنظمة الاقتصادية نتيجة للثورة الرقمية التي غيّرت بشكل جذري ملامح الإنتاج والاقتصاد في مختلف المجالات. هذا التحول يضع الفكر الماركسي أمام تحديات جديدة في فهم قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج التي قد تكون قد تغيرت بشكل لا يتماشى مع المبادئ التقليدية للاقتصاد الماركسي. يناقش هذا المقال تلك التحديات ويستعرض كيفية تأثير التحول الرقمي على الاقتصاد العالمي والعلاقات الاجتماعية المرتبطة به.

التحول الرقمي وظهور الاقتصاد المعرفي

الاقتصاد الرقمي يعتمد بشكل أساسي على المعلومات والتكنولوجيا والبيانات كعوامل رئيسية في عملية الإنتاج. في هذا السياق، تبرز المعلومات باعتبارها العامل الأساسي الذي يشكل قوى الإنتاج. من خلال الإنترنت، يتمكن الأفراد من إنشاء وتبادل البيانات التي تصبح عنصرًا رئيسيًا في تحديد قيم المنتجات والخدمات. هذا التغيير في القوى الإنتاجية يعكس تحديًا فكريًا لالفكر الماركسي، الذي ركز على القوى المادية كالعامل البشري والآلات.

في الاقتصادات الرقمية، الشركات الكبرى مثل غوغل و أمازون تقوم بتجميع واستخدام البيانات التي يتم إنشاؤها من خلال تفاعلات المستخدمين. هذه البيانات لا تعتبر ملكًا للمستخدمين الذين ينتجونها، بل تصبح ملكًا للمؤسسات التي تستغلها لتحقيق أرباح ضخمة. ويثير هذا النوع من الاستغلال التساؤلات حول مفهوم العمل و القيمة في الاقتصاد الرقمي، خصوصًا أن الإنتاج يتم من خلال الخوارزميات وأدوات الذكاء الاصطناعي دون الحاجة إلى مشاركة مباشرة من القوى العاملة.

أثر التحول الرقمي على قوى وعلاقات الإنتاج

شهد التحول الرقمي في العقود الأخيرة تغيرًا جوهريًا في قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وهو ما يعكس تحولات في هيكل الاقتصاد العالمي. إذا كان ماركس قد حلل قوى الإنتاج التقليدية التي تعتمد على العمل المادي والآلات، فإن الثورة الرقمية قد خلقت قوى إنتاج جديدة تركز بشكل أساسي على المعلومات والبيانات. أدى هذا التحول إلى إعادة تشكيل علاقات الإنتاج في العديد من الصناعات، إذ ظهرت طبقات جديدة من المنتجين والمستفيدين، وكذلك طبقات من المستهلكين الذين أصبحوا، بدورهم، منتجين غير مباشرين للبيانات.

في الاقتصاد الرقمي، لا تقتصر قوى الإنتاج على الأيدي العاملة فقط، بل تشمل أيضًا التكنولوجيا والبرمجيات والبيانات كعناصر أساسية في العملية الإنتاجية. الشركات الكبرى التي تسيطر على هذه القوى الجديدة، مثل غوغل و أمازون، تعتمد على خوارزميات معقدة وذكاء اصطناعي لتحسين الإنتاجية، مما يعزز من السيطرة على السوق والمستهلكين. هذا التحول يؤدي إلى تفكيك البنية التقليدية لعلاقات الإنتاج القائمة على الصناعة، ليتحول إلى علاقات جديدة تتمركز حول الاحتكار الرقمي والمعلومات التي تُجمع وتُستغل من قبل الشركات الكبرى، دون أن يتمكن العمال أو المستهلكون من تحقيق منافع متكافئة.

على المستوى الماركسي، يمكن النظر إلى هذا التحول على أنه تعميق لفكرة استغلال القوى العاملة الرقمية، حيث يتم الاستفادة من البيانات الناتجة عن تفاعل المستخدمين مع التطبيقات والخدمات، دون أن يتلقى هؤلاء المستخدمون تعويضًا مناسبًا. وفي نفس الوقت، تزداد الفجوة الطبقية بين أولئك الذين يمتلكون القدرة على الوصول إلى هذه القوى الإنتاجية الحديثة، وأولئك الذين يتم تهميشهم أو استبعادهم من هذا النظام الاقتصادي الجديد. وبالتالي، يؤدي التحول الرقمي إلى تحولات معقدة في الملكية والاستغلال وتوزيع الثروة، مما يتطلب تطوير أدوات جديدة للتحليل الماركسي لفهم هذه الديناميكيات بشكل دقيق.

أثر التحول الرقمي على الطبقات الاجتماعية

يمثل التحول الرقمي تغييرًا في مفهوم الطبقات الاجتماعية والملكية، حيث يساهم في توسيع الفجوة بين طبقات المجتمع. في الاقتصاد الرقمي، تبرز فئات جديدة من الطبقة العاملة، والتي تشمل العاملين في مجال التكنولوجيا مثل المطورين و المهندسين، ولكن في الوقت نفسه يتسع التفاوت بين هؤلاء العاملين وبين أولئك الذين لا يمتلكون المهارات الرقمية. كما يُمكّن الاحتكار الرقمي الشركات الكبرى من امتلاك مصادر هائلة من البيانات والمعرفة، مما يعزز قدرتها على التحكم في السوق واكتساب مزايا اقتصادية غير عادلة.

تعتبر الشركات التقنية الكبرى مثل غوغل و فيسبوك و مايكروسوفت من بين الجهات الرائدة في جمع البيانات وتحليلها، ما يجعلها تسيطر على جزء كبير من الأسواق الرقمية العالمية. تلك الشركات لا تقتصر على كسب الأموال من خلال الخدمات التي تقدمها، بل يتم استغلال البيانات الشخصية للمستخدمين كأساس لبناء النماذج التجارية و الاقتصاد الإعلاني، الأمر الذي يزيد من تأثير رأس المال على الحياة اليومية للأفراد.

الرأسمالية الرقمية: وجه جديد للاستغلال

تمثل الرأسمالية الرقمية تطورًا نوعيًا في النظام الرأسمالي، حيث لم تعد القيمة تُستخلص فقط من العمل المأجور المباشر، بل من البيانات والأنشطة الرقمية للمستخدمين أنفسهم. في هذا النمط من الاقتصاد، تصبح المعلومات والاهتمام البشري سلعة تُباع وتُشترى، وتُستغل من قبل الشركات العملاقة مثل Google وMeta (فيسبوك سابقًا) وAmazon. هذه الشركات لا تنتج فقط خدمات رقمية، بل تنتج وتحتكر بنى تحتية رقمية كاملة تُمكنها من مراقبة وتحليل سلوك المستخدمين وتوجيهه، في ما يسمى بـ"رأسمالية المراقبة".

وفي هذا الإطار، لم تعد علاقات الإنتاج تُبنى فقط على ملكية وسائل الإنتاج المادية، بل على السيطرة على الخوارزميات والمنصات والبيانات الضخمة. إن هذا التحول يجعل من الصعب فصل الحياة الاجتماعية عن الاقتصاد، حيث تُدمج الحياة اليومية في دورة الإنتاج الرأسمالي من خلال الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي والتجارة الإلكترونية. وبالتالي، فإن الرأسمالية الرقمية تعمّق من علاقات الاستغلال، وتعيد إنتاج الهيمنة الطبقية عبر وسائل جديدة غير مرئية ولكنها أكثر تأثيرًا.

التحول الرقمي كأداة للهيمنة الاقتصادية

يرى الفكر الماركسي أن النظام الرأسمالي يعتمد على الاحتكار و تراكم رأس المال على حساب العمال. في الاقتصاد الرقمي، أصبح هذا الاحتكار أكثر وضوحًا، حيث سيطرت شركات قليلة على معظم الأسواق الرقمية العالمية. هذه الشركات يمكنها استخدام التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي و الخوارزميات لتعزيز قدرتها على تحقيق الأرباح، من خلال السيطرة على حركة البيانات و المعلومات.

من منظور ماركسي، هذا يعزز من الاستغلال، حيث يتم تحميل الطبقة العاملة تكلفة استخدام هذه التقنيات دون أن تشارك في أرباحها. كما يساهم التحول الرقمي في تعزيز الاحتكار الرقمي، حيث تسيطر الشركات الكبرى على تقنيات الاتصال والمعلومات التي تتحكم في سوق العمل والاقتصاد بشكل عام.

أهمية التعليم الرقمي في ظل الاقتصاد الرقمي

في ظل هذه التحولات، يصبح التعليم الرقمي ضرورة ملحة لضمان تمكين الأفراد من اكتساب المهارات اللازمة للمنافسة في سوق العمل الرقمي. يوفر التعليم المفتوح و الرقمي فرصًا للتعلم الذاتي والوصول إلى الموارد التعليمية في أي وقت ومن أي مكان. يشكل التعليم الرقمي أداة تمكين للأفراد، حيث يمكنهم من تحسين مهاراتهم التقنية والتكيف مع تغيرات الاقتصاد الرقمي، مما يعزز فرصهم في تحسين مستوى حياتهم وتطوير قدراتهم.

الختام

تواجه الفكر الماركسي تحديات جديدة في ظل الاقتصاد الرقمي، حيث تتغير قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج بسرعة وبشكل غير مسبوق. يتطلب فهم هذه التغيرات توسيعًا للفكر الماركسي التقليدي ليشمل القوى الرقمية والتكنولوجيا كعوامل أساسية في تحليل القوى الاقتصادية المعاصرة. كما يجب على الماركسيين أن يركزوا على دراسة الاستغلال الرقمي وكيفية تأثير الاقتصاد الرقمي على الطبقات الاجتماعية والملكية والاستغلال وتوزيع الثروة.

تحديات التعليم العام والعالي في السودان

مقدمة

منذ نيل السودان استقلاله عام 1956، ظل التعليم يمثل ركيزة أساسية في طموحات بناء الدولة الحديثة. إلا أن مسيرة التعليم، بشقيه العام والعالي، واجهت سلسلة من التحديات المركبة التي حالت دون تحقيق التنمية البشرية المنشودة. تتراوح هذه التحديات بين ما هو سياسي واقتصادي، وما هو اجتماعي وثقافي، ما يجعل ملف التعليم أحد أبرز مظاهر الأزمة الوطنية الشاملة.

أولًا: التعليم العام – رحلة من التراجع

رغم الإرث التعليمي العريق الذي ورثه السودان من فترة الحكم الثنائي، والذي تجسد في مؤسسات مثل كلية غردون التذكارية ومعهد امدرمان العلمي، إلا أن التعليم العام سرعان ما دخل في دوامة من التسييس والارتجال في السياسات. فقد شهدت البلاد تغييرات متكررة في المناهج وأنظمة الامتحانات تبعًا لتغير الأنظمة السياسية، من دون رؤية استراتيجية ثابتة، مما انعكس سلبًا على استقرار النظام التعليمي وجودته [1].

إحصائيات:

معدل الإلمام بالقراءة والكتابة في السودان (2022): 61% فقط، مقابل 76% في إثيوبيا، و78% في أوغندا [2].


الإنفاق الحكومي على التعليم كنسبة من الناتج المحلي: أقل من 1.2% في السودان، مقارنة بـ4.2% في إثيوبيا و5.6% في أوغندا [3].


نسبة المعلمين المؤهلين في المرحلة الأساسية: 54% في السودان، مقابل 79% في تشاد، و91% في رواندا [4].


أزمة فلسفة التعليم وهويته

من الجوانب المغفلة في تحليل أزمة التعليم في السودان هي غياب فلسفة تعليمية وطنية واضحة تعبر عن واقع البلاد الثقافي والاجتماعي والتاريخي. فمنذ الاستقلال، لم يتم تفكيك الإرث الاستعماري الذي صاغ التعليم على أسس تخدم الإدارة البريطانية [9].
وقد استمر هذا النهج بعد الاستقلال، بل فرضت الأنظمة المتعاقبة رؤى أيديولوجية فوقية إما تغازل الثقافة الغربية أو تنزع إلى الإسلام السياسي، في قطيعة مع واقع التنوع الثقافي واللغوي للسودان.

التحديات الهيكلية والتعليم في الهامش

تفاقمت الأزمة مع ضعف التمويل الحكومي، ما أدى إلى تدهور البنية التحتية في آلاف المدارس. أكثر من 30% من المدارس الابتدائية لا تملك مراحيض أو مياه شرب نظيفة [5].
وفي مناطق النزاع مثل دارفور والنيل الأزرق، فإن أكثر من مليون طفل في سن الدراسة خارج النظام التعليمي، وهو رقم أعلى من مثيله في أوغندا التي عانت حروبًا مشابهة.
كما تتفاوت نسب التحاق البنات بالمدارس بشكل كبير بين العاصمة والمناطق الريفية، إذ تصل إلى 85% في الخرطوم وتنخفض إلى أقل من 40% في ولايات مثل غرب كردفان [1].

ثانيًا: التعليم العالي – توسع كمّي على حساب النوع

دخل التعليم العالي في السودان مرحلة جديدة منذ التسعينيات فيما عُرف بـ"ثورة التعليم العالي"، التي ضاعفت أعداد الجامعات من أقل من 10 إلى أكثر من 40 جامعة خلال عقد واحد. لكن ذلك تم دون توفير تمويل كافٍ أو كوادر مؤهلة، مما أدى إلى تراجع الجودة [8].

أرقام مقارنة:

عدد الطلاب لكل أستاذ جامعي: 1:70 في السودان، مقارنة بـ1:30 في إثيوبيا و1:25 في مصر [4].


معدل الإنفاق على البحث العلمي: أقل من 0.2% من الناتج المحلي، بينما تنفق إثيوبيا حوالي 0.6%، وجنوب إفريقيا 0.8% [3].


عدد الجامعات السودانية في تصنيف QS أو Times 2023: 0، مقارنة بجامعتين إثيوبيتين و3 جامعات أوغندية [5].


التعليم المفتوح كمدخل لتوسيع فرص التعلم

في ظل التحديات التي يواجهها النظام التعليمي التقليدي في السودان، برز التعليم المفتوح كأحد الحلول الواعدة لتوسيع فرص الوصول إلى التعليم وتجاوز الحواجز الجغرافية والاقتصادية.
وتشير التقارير إلى أن أنظمة التعليم المفتوح أسهمت في خفض فجوة التعليم بين الذكور والإناث بنسبة 20% في رواندا وتنزانيا، ويمكن أن تمثل فرصة مماثلة للسودان [7].

آثار الحرب على قطاع التعليم في السودان

لم تكن الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 نتيجة النزاع العسكري بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع مجرد أزمة سياسية وأمنية، بل كانت لها تأثيرات مدمرة على قطاع التعليم في السودان. أدى الصراع إلى إغلاق معظم المؤسسات التعليمية في الخرطوم ومناطق أخرى من البلاد، حيث توقفت المدارس والجامعات عن العمل لفترات طويلة، مما أثر بشكل كبير على قدرة الطلاب على استكمال دراستهم. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت البنية التحتية التعليمية، من مدارس ومرافق تعليمية، للتدمير نتيجة القصف والتخريب، وهو ما جعل الوصول إلى التعليم أكثر صعوبة في المناطق المتضررة [1].

تشير التقديرات إلى أن أكثر من 2 مليون طالب وطالبة في مختلف المراحل التعليمية قد تأثروا مباشرة بسبب توقف الدراسة في مناطق الحرب [2]. كما أُجبر العديد من المعلمين على مغادرة أماكن عملهم بسبب المخاطر الأمنية، مما أدى إلى نقص حاد في الكوادر التعليمية المؤهلة. وبالطبع، فقد تسببت هذه الظروف في تفاقم الفجوة التعليمية، وزيادة معدلات تسرب الطلاب، خاصة في المناطق المتأثرة بالصراع مثل دارفور وكردفان.

إضافة إلى ذلك، فإن الوضع الاقتصادي المتدهور الذي رافق الحرب، بما في ذلك نقص التمويل الحكومي، أثر بشكل كبير على قدرة الحكومة على إعادة تأهيل المدارس والمرافق التعليمية. ويقدر بعض الخبراء أن عملية إعادة بناء قطاع التعليم في السودان قد تستغرق سنوات، ما لم يتم توفير دعم دولي حقيقي ومستمر [3].

نحو إصلاح جذري وشامل

لا يمكن النهوض بالتعليم من دون مقاربة شاملة تستند إلى مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة. الإصلاح يتطلب:

زيادة الإنفاق على التعليم إلى 5% على الأقل من الناتج المحلي.


إعادة الاعتبار للغات والثقافات المحلية في المناهج.


تأهيل المعلمين وزيادة الحوافز لمنع تسربهم.


تعزيز التعليم التقني والمهني وربطه بسوق العمل.


إشراك المجتمعات المحلية في وضع السياسات التعليمية.


خاتمة

يمثل التعليم مفتاحًا للخروج من دائرة التهميش والتخلف. ولعل المقارنة مع دول كانت حتى وقت قريب تعاني من ظروف مشابهة، تؤكد أن الإرادة السياسية، والتخطيط الاستراتيجي، والاستثمار الحقيقي في الإنسان، قادرة على إحداث نهضة تعليمية حقيقية. فهل نمتلك هذه الإرادة في السودان؟

المراجع:

[1] United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA), Sudan Humanitarian Response Plan, 2023.

[2] UNICEF, Impact of Conflict on Education in Sudan, 2023. [Online]. Available: https://www.unicef.org/sudan

[3] Sudan Ministry of Education, Assessment of Education Sector Damage Due to Recent Conflict, 2023.

[4] UNESCO, Global Education Monitoring Report, 2023.

[5] UNESCO Institute for Statistics, Youth Literacy Rate: Sudan, Ethiopia, Uganda, 2023. [Online]. Available: https://uis.unesco.org

[6] World Bank, Public Spending on Education (% of GDP), 2023. [Online]. Available: https://data.worldbank.org

[7] African Development Bank, Education Sector Report – Sudan, 2022.

[8] UNICEF Sudan, Education under Threat: Situation Report, 2023.

[9] QS World University Rankings, University Rankings by Region, 2023. [Online]. Available: https://www.topuniversities.com

[10] Open University UK and Commonwealth of Learning, The Role of Open and Distance Learning in Sub-Saharan Africa, 2022.

[11] Tangaza Journal of Education and Research, The Challenges of Postcolonial Education in Africa: A Critical Reflection, 2020.

الأزمة السودانية: الحرية والسلام والعدالة

مقدمة

شهد السودان خلال العقود الأخيرة سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بلغت ذروتها في ثورة ديسمبر 2018 التي رفعت شعار "حرية، سلام، وعدالة" كمطلب محوري للشارع السوداني. غير أن المسار السياسي الذي تلا الثورة لم يحقق تطلعات الجماهير، بل أعاد إنتاج الأزمة في أشكال جديدة، وسط تفاقم الأوضاع المعيشية وتصاعد النزاعات المسلحة.

في هذا السياق، يبرز السؤال: ما الذي حال دون تحقق شعارات الثورة؟ وهل يمكن فهم هذه الأزمة بمعزل عن جذورها الطبقية والبنيوية؟  لا يمكن فهم الأزمة السودانية إلا من خلال تحليل علاقات الإنتاج، وتوازنات القوى الطبقية، والبنية الاقتصادية التابعة التي تشكل جوهر الدولة السودانية منذ الاستقلال.

أولًا: الحرية بين الشكل الليبرالي والمضمون الطبقي

يتم الترويج للحرية في الخطاب السياسي السائد بوصفها حرية التعبير، والتعددية الحزبية، والانتخابات الدورية. غير أن هذه الحريات الشكلية، في غياب تغييرات حقيقية في البنية الاقتصادية، لا تؤدي إلى تحرر فعلي للجماهير.

الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا بتحرر الطبقات الكادحة والمهمشة من الاستغلال والسيطرة الرأسمالية. وفي السودان، تظل أدوات الإنتاج، والموارد، ووسائل الإعلام في قبضة طبقة طفيلية مترابطة مع الرأسمال العالمي. وبالتالي فإن الحديث عن الحرية دون تغيير علاقات السيطرة الاقتصادية لا يعدو كونه تزييفًا للوعي.

ثانيًا: السلام – غياب الحرب أم إنهاء أسبابها؟

وقعت حكومات السودان المتعاقبة عشرات الاتفاقيات مع الحركات المسلحة، لكنها لم تفلح في تحقيق سلام دائم. السبب الجوهري لذلك أن هذه الاتفاقات تتعامل مع النزاعات بوصفها خلافات بين نخب وليس نتيجة لظلم اجتماعي وإقصاء اقتصادي.

إن النزاعات المسلحة في السودان هي نتيجة مباشرة لعلاقات إنتاج غير متكافئة، وهيمنة اللطبقة الحاكمة (رسمالية طفيلية ونخب عسكرية وامنية وسياسيون برجوازيون) على الموارد، وتهميش مناطق بأكملها اقتصاديًا وثقافيًا. السلام لا يتحقق بتقاسم السلطة بين أطراف النخبة، بل بإنهاء جذور الصراع عبر إعادة توزيع الثروة، وتمكين المجتمعات المحلية، وتفكيك الدولة الريعية التابعة.

ثالثًا: العدالة – من منظور اجتماعي لا قانوني فقط

تُختزل العدالة في كثير من الأحيان في استقلال القضاء وتطبيق القوانين، لكن هذه الرؤية تتجاهل أن القوانين نفسها غالبًا ما تُصاغ لحماية مصالح الطبقة الحاكمة.

العدالة الاجتماعية،  تعني إنهاء الاستغلال، وإعادة توزيع الدخل، وتوفير الخدمات الأساسية للجميع. وفي السودان، تظل مؤشرات الفقر والبطالة وسوء التغذية مرتفعة نتيجة لسياسات النيوليبرالية التي فُرضت لعقود. لذلك، فإن العدالة لا يمكن تحقيقها دون تغيير جذري في السياسات الاقتصادية والبنى التحتية للتمييز الطبقي.

رابعًا: الثورة السودانية وإمكانية التغيير الجذري

انطلقت ثورة ديسمبر من رحم المعاناة الشعبية، بقيادة لجان المقاومة، والعمال، والطلاب، وصغار المنتجين. لكنها واجهت سريعًا قوى الثورة المضادة، التي تحالفت فيها عناصر النظام القديم مع نخب مدنية راغبة في تقاسم السلطة دون تغيير فعلي.

الثورة ليست لحظة احتجاج بل مسار طويل لتفكيك الدولة الرأسمالية وبناء دولة بديلة تقوم على سيادة الشعب المنتج. ويتطلب هذا بناء أدوات تنظيمية بديلة، كالنقابات الثورية، ومجالس العمال، والتحالفات الشعبية القاعدية.

خاتمة

إن شعارات "حرية، سلام، وعدالة" لا يمكن تحقيقها في إطار الدولة الحالية، ولا عبر التغيير الشكلي أو الإصلاح الجزئي. بل يتطلب ذلك مشروعًا تحرريًا جذريًا يستند إلى فهم طبقي للأزمة، ويعمل على تفكيك بنى الاستغلال، وبناء اقتصاد إنتاجي مستقل، ومجتمع عادل يضع الإنسان في مركز العملية التنموية.

إن الطريق إلى الحرية والعدالة والسلام لا يمر عبر الصفقات السياسية، بل عبر التنظيم الواعي للطبقات الكادحة والمهمشة، وإعادة بناء الدولة من الأساس، على قاعدة التحرر من التبعية، وتحقيق العدالة الطبقية والاجتماعية.

أحزان ودهشة الحرب : تجربة شخصية


لم أكن أتخيل أن تستيقظ المدن على صوت الرصاص، وأن يتحول الوطن الذي كنا نحلم ببنائه ... وطن شامخ حر ديمقراطي ....إلى لوحة قاتمة مغموسة في الدم والدمار. الحرب التي اندلعت في السودان لم تكن مجرد حدث سياسي أو صراع مسلح بين أطراف متنازعة، بل زلزال شخصي هز أعماقي، كإنسان ومواطن، وهدم تفاصيل الحياة اليومية التي كنت أظنها ثابتة.

دهشة البداية

كانت البداية كالحلم السيء الذي ننتظر أن نصحو منه. في صباح 15 أبريل 2023، بدأ صوت الرصاص يعلو في سماء الخرطوم. اعتقدت في البداية أنه اشتباك محدود، لكنه لم يتوقف. الدهشة الأولى كانت صامتة، مشوبة بإنكار داخلي: "لا يمكن أن تبدأ حرب فعلية في قلب العاصمة". لكن الحقيقة كانت أمامنا، جلية وقاسية.

فوضى الانهيار

شيئاً فشيئاً بدأ كل شيء ينهار. انقطع التيار الكهرباي .. وانسياب المياه ...توقفت شبكات الاتصالات، أغلقت المتاجر، وغاب الأمن. رأيت بأم عيني كيف يتحول الجار إلى لاجئ، وكيف يفر الناس من أحياء كانت نابضة بالحياة، يحملون ما خف من متاع ويتركون خلفهم ذكرياتهم. عايشت مرارة النزوح، ومعها شعور غريب بالذنب لأنني نجوت بينما ظل آخرون تحت القصف.

مغادرة الدفء إلى المجهول

لم يكن النزوح قرارًا، بل خضوعًا قاسيًا لواقع فرض نفسه بالقوة. لحظة مغادرة المنزل كانت أشبه بخلع جزء من الروح. خرجنا ونحن نعلم أننا نترك خلفنا ذكرياتنا، دفء الجدران التي شهدت ضحكاتنا، وروائح القهوة في الصباح، وصوت الراديو في المساء. البيوت لا تكون مجرد جدران، إنها الحاضن الصامت لكل لحظة حية عشْناها.

البلدة نفسها بدت حزينة، كأنها تودع أبناءها بصمت. الطرقات التي كنا نمر بها يوميًا بدت غريبة، مهجورة، كأنها فقدت معناها دوننا. النوافذ المغلقة، الأبواب التي أُوصِدت على عجل، الأشجار التي لم يعد أحد يمر بجانبها… كل شيء كان يصرخ في صمت: "إلى أين؟ ولماذا؟"

القلوب مثقلة، والعين خلف الزجاج تتعلق بآخر نظرة نحو المكان الذي قد لا نعود إليه أبدًا. كانت الخطى ثقيلة، محمّلة بالخوف والحنين والخذلان. خذلان الدولة، خذلان الحلم، وخذلان الأمان.

لكن حتى في هذه اللحظة القاسية، لم تغب الإرادة. نزعنا جذورنا من الأرض قسرًا، لكننا حملناها معنا في قلوبنا، على أمل أن نعود يومًا، ونزرعها من جديد، في بلدة تعرفنا وتحن إلينا كما نحن نشتاق إليها.

غياب أصوات الفرح والإبداع

الحرب سرقت أكثر من الأمان والذكريات. كان أكثر ما يؤلم هو غياب أصوات الفرح والإبداع التي كانت تعج بها شوارعنا. لا مزيد من ضحكات الأطفال في الزوايا، ولا نغمات الآلات الموسيقية التي كانت تملأ الأمسيات. توقف الفن، وتوقف الأمل. الثقافة التي كانت تزدهر في كل ركن، والشعر الذي كان ينبت بين الكلمات، أصبحا معلقين في الهواء، في انتظار زوال العاصفة.

أصبحت المدينة ساحة صمت رهيب، لا تُسمع فيها سوى أصوات الدمار والأنين. الفنانون أصبحوا مهجرين، والحكايات التي كانت تحكى على المقاهي، وتُغنى في الأزقة، أصبحت ذكريات نراها في عيوننا. كان غياب الإبداع أشد قسوة من غياب الأمن، لأنه كان يرمز إلى فقداننا لروحنا.

التفرق والشتات

من  آثار الحرب التي شهدناها كان التفرق الذي مسّ الأسر، وخاصة النساء. فالمرأة السودانية كانت دوماً تشكل الدعامة الأساسية للأسرة، ولكن مع الحرب، فقدت العديد من الأسر تماسكها. انفصلت الأسر، وركضت النساء إلى المجهول، يحملن أطفالهن، في سعي للنجاة بينما تتفرّق العائلات، وتتشتت الأحلام. هذا التفرق لم يكن مجرد انفصال جسدي، بل كان انفصالاً نفسياً وثقافياً أيضاً.

لقد تفرّقت الكثير من العلاقات الأسرية تحت وطأة الحرب، وأصبحنا نرى عائلات تفقد توازنها، والنساء يجدن أنفسهن في مواجهة تحديات جديدة غير مسبوقة، حيث عليهن التعامل مع مسؤوليات جديدة من العناية بالأطفال وإدارة الحياة اليومية وسط الفوضى، دون دعم أسري أو اجتماعي. في تلك اللحظات، كانت النياء السودانيات يثبتن في مواجهة التحديات، ولكن كان الأمل يبدو بعيداً في كثير من الأحيان.

الهوس بالقتل: دمار النفس والروح في زمن الحرب

في خضم العنف والدمار، تسيدت الحرب مشهدًا مرعبًا من الهوس والتلذذ بالقتل. لم تعد المعركة مجرد صراع بين أطراف متنازعة، بل تحولت إلى حالة مرضية، حيث بدا البعض مستمتعًا بالموت والدمار الذي يُحصد على الأرض. تحول القتل إلى فعل عادي، بل صار مَشْهداً شهيرًا يُثير الإثارة في نفوس من فقدوا أي إحساس بالإنسانية.

كان هناك من يذهب إلى أبعد من مجرد الحروب العسكرية، ليغرق في متعة وحشية، وكأنها لعبة بلا قوانين. الدماء التي كانت تغطي الشوارع لم تعد تعني شيئًا، حتى البسمة على وجه الضحية كانت تتحول إلى مصدر تهكمٍ وتسلية لأولئك الذين فقدوا عقولهم وسط فوضى الحرب. تحولت النفوس البشرية إلى كائنات شبه ميّتة، تقف أمام منظر الموت دون أن تهتز أو تتأثر. ما كان يوماً من أخطر المحرمات أصبح الآن حدثًا يوميًا يتداول بين من لا ضمير لهم.

إن هذه الحالة من الهوس والتمتع بالموت والدمار تعكس تدهوراً عميقاً في الأخلاقيات والإنسانية، حيث يطغى النزاع على العقل، وتفقد الروح القدرة على الشعور بالعذاب الذي يتسبب فيه. تصبح الحرب بمثابة عدوى تنتشر داخل النفس البشرية، تُحوّل الأفراد إلى آلات قتل بلا رحمة، تحصد الأرواح وتترك وراءها تدميرًا نفسيًا لا يمكن تصحيحه بسهولة.

أحزان لا توصف

في الحرب، لا يوجد منتصر حقيقي. حتى من ينجو، يخرج منها مثقلاً بالخسارات. فقدنا الأصدقاء، الأحباب، الأمان، وحتى أحلامنا. رأيت أطفالاً لم يعرفوا معنى الطفولة، ونساء يحملن على أكتافهن عبء بيوت مدمرة، وشيوخاً يسألون: "أين الدولة؟ أين نحن؟"

دهشة الصمود

ورغم كل ذلك، وسط الأنقاض، كانت هناك دهشة أخرى: دهشة الصمود. رأيت كيف يتعاون الناس رغم الجوع والخوف، كيف يتقاسمون الرغيف والماء، وكيف تصير الإنسانية طوق النجاة في غياب كل شيء. علمتني الحرب أن الإنسان يمكن أن يضيء ظلمة

دور مراكز التدريب في تجاوز آثار الحرب: نحو إعادة بناء الإنسان والمجتمع

مقدمة

تشكل الحروب والنزاعات المسلحة كوارث اجتماعية واقتصادية تهدم البنية التحتية وتؤدي إلى تفكك النسيج المجتمعي، وتخلف وراءها جيوشًا من العاطلين والمشردين والنازحين، ناهيك عن التحديات النفسية والإنسانية. وفي ظل هذا الواقع، تبرز مراكز التدريب المهني والفني كأدوات استراتيجية تلعب دورًا محوريًا في مرحلة ما بعد الحرب، وتسهم بفعالية في إعادة بناء الإنسان والمجتمع وتعزيز سبل العيش الكريم [1].

1. إعادة تأهيل الكوادر البشرية

من أولويات التعافي بعد الحرب توفير فرص لإعادة تأهيل الأفراد، خصوصًا الشباب والنساء والنازحين، وتزويدهم بمهارات عملية تساعدهم على الدخول إلى سوق العمل. تقدم مراكز التدريب برامج متخصصة في الحرف والصناعات الصغيرة والمهن اليدوية [2]، مما يمكّن الفئات المتضررة من الاعتماد على الذات وكسب الرزق بطريقة كريمة، بعيدًا عن الاتكال على المعونات الإنسانية.

2. دعم الاقتصاد المحلي وبناء سبل العيش

تعمل مراكز التدريب على دعم الاقتصاد المحلي من خلال خلق كوادر مؤهلة قادرة على تلبية احتياجات سوق العمل [3]. كما تشجع ريادة الأعمال من خلال توفير التدريب في إدارة المشاريع الصغيرة، مما يعزز من قدرة الأفراد على تأسيس مشاريعهم الخاصة والمساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي [4].

3. تعزيز التماسك الاجتماعي والمصالحة

في المجتمعات المنقسمة بسبب الصراعات، توفر مراكز التدريب مساحات للتلاقي والتعاون بين أفراد المجتمع من مختلف الخلفيات والمناطق، مما يساهم في بناء الثقة وتعزيز التفاهم [5]. كما تدرج بعض المراكز موضوعات السلام وحل النزاعات ضمن برامجها، ما يسهم في نشر ثقافة التسامح ونبذ العنف.

4. الإسهام في إعادة الإعمار

تحتاج عمليات إعادة الإعمار إلى كوادر مدربة في مجالات الكهرباء، البناء، السباكة، الزراعة، والطاقة المتجددة [6]. وهنا يأتي دور مراكز التدريب التي تجهز الفنيين والعمال المهرة للمشاركة في إصلاح ما دمرته الحرب، مما يجعلها شريكًا حيويًا في جهود التنمية الوطنية.

5. تمكين الفئات الأكثر تأثرًا بالحرب

تولي مراكز التدريب اهتمامًا خاصًا بالفئات الهشة، مثل النساء، الأطفال، وذوي الإعاقة، عبر تصميم برامج تراعي احتياجاتهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية [7]. هذا التمكين يعزز من مشاركتهم في المجتمع ويقلل من التهميش ويعطيهم الفرصة للمساهمة في بناء السلام والتنمية.

6. بناء ثقافة السلام والتنمية المستدامة

من خلال دمج مفاهيم حقوق الإنسان، المواطنة، التسامح، والعمل الجماعي في مناهج التدريب، تسهم هذه المراكز في بناء وعي جديد يقوم على السلام والعدالة والتنمية المستدامة، وهي شروط أساسية لتفادي تكرار الحروب وتعزيز صمود المجتمعات [5].

دراسة حالة: السودان بعد حرب 2023 – فرص لمراكز التدريب في التعافي وإعادة البناء

شهد السودان منذ أبريل 2023 حربًا مدمرة تسببت في دمار واسع للبنية التحتية، ونزوح الملايين، وتوقف شبه كامل للأنشطة الاقتصادية والتعليمية. وفي ظل هذا الواقع المأساوي، تظهر مراكز التدريب المهني والتقني كرافعة أساسية لإعادة بناء ما دمرته الحرب [8].

إعادة تأهيل النازحين والشباب: يمكن لمراكز التدريب في المدن المستقرة مثل كسلا والقضارف، وبورتسودان وعطبرة أن تسهم في إعادة تأهيل الشباب وتزويدهم بمهارات الكهرباء، الطاقة الشمسية، الأعمال الحرفية، وصيانة الأجهزة [4].


تمكين النساء: بتعليم النساء مهارات عملية مثل الخياطة، صناعة الصابون، والتسويق الرقمي، يمكن تحويلهن إلى فاعلات اقتصاديات مستقلات، خاصة في ظل غياب المعيل [7].


مبادرات محلية ودولية: رغم التحديات، ظهرت مبادرات شبابية ومنظمات مثل اليونيسف لدعم التدريب في مناطق النزوح، لكنها ما زالت محدودة وتحتاج إلى توسيع وتمويل [6].


تحديات وفرص: بينما تعاني المراكز من ضعف البنية التحتية، يمكن اغتنام الفرصة لبناء نظام تدريبي حديث يعتمد على الشراكات، التدريب الرقمي، وربط التدريب بالحاجات المحلية [8].


تجارب دولية ناجحة

1. رواندا بعد الإبادة الجماعية (1994):

أطلقت رواندا برنامجًا وطنيًا للتدريب المهني يركز على الشباب والنساء والناجين، مما ساعد في تقليص نسب البطالة، وتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، وبناء اقتصاد قائم على المعرفة [3].

2. البوسنة والهرسك بعد حرب البلقان:

ساهمت مراكز التدريب، بدعم من الاتحاد الأوروبي، في إعادة تأهيل العاطلين عن العمل، ودمج النازحين في الاقتصاد المحلي من خلال التدريب على المهن الحرفية والزراعة [2].

3. سيراليون وليبيريا بعد الحروب الأهلية:

اعتمدت مراكز التدريب على نهج "التدريب مقابل العمل"، حيث يتلقى المشاركون تدريبًا وينفذون مشاريع إعادة إعمار، مما أسهم في دمجهم الاجتماعي وتوفير دخل مستدام [6].

توصيات عملية للسودان

إدماج التدريب المهني في خطة التعافي الوطنية كأداة رئيسية لإعادة البناء وتمكين الفئات المتأثرة [1].


توسيع الشراكات بين الدولة، القطاع الخاص، والمنظمات الدولية لدعم إنشاء مراكز تدريب حديثة [4].


اعتماد التدريب الرقمي والتعليم عن بُعد لتجاوز تحديات التنقل والبنية التحتية [8].


تصميم برامج تدريب مرنة وموجهة للفئات الهشة مثل النساء، النازحين، وذوي الإعاقة [7].


دمج مفاهيم المصالحة والسلام في مناهج التدريب لتعزيز التعايش المجتمعي [5].


تقييم سوق العمل المحلي لتوجيه التدريب نحو المجالات ذات الأولوية (مثل الطاقة، الزراعة، الخدمات) [2].


تحفيز ريادة الأعمال من خلال برامج تدريبية وتمويلية للمشروعات الصغيرة [3].


خاتمة موسعة

تُثبت التجارب المحلية والعالمية أن التعافي الحقيقي بعد الحروب لا يبدأ بالإعمار المادي فقط، بل بإعادة بناء الإنسان وتأهيله ليكون فاعلًا في مجتمعه، متصالحًا مع نفسه والآخر، ومنتجًا على كافة المستويات [1]، [5]. وفي هذا الإطار، تبرز مراكز التدريب المهني والفني بوصفها حجر الزاوية في مسار الانتقال من الدمار إلى التنمية، ومن الفوضى إلى الاستقرار [6].

بالنسبة للسودان، فإن مراكز التدريب لا تمثل مجرد مرافق تعليمية، بل أدوات للتحول المجتمعي، تزرع الأمل في قلوب الملايين من الشباب والنازحين والنساء، وتفتح لهم أبوابًا جديدة للعيش الكريم والكرامة الإنسانية [8]. فمع كل شاب يتعلم مهنة، وكل امرأة تكتسب مهارة، وكل مجموعة تُنظم حول مشروع تدريبي جماعي، تُبنى لبنة جديدة في صرح السلام والتنمية.

ومع استمرار الحرب وتداعياتها، فإن الحاجة إلى تبني استراتيجية وطنية شاملة لتوسيع ودعم مراكز التدريب أصبحت أمرًا ملحًا. ينبغي أن تكون هذه المراكز جزءًا أصيلًا من خطط التعافي وإعادة الإعمار، لا ملحقًا مؤقتًا، بل شريكًا رئيسيًا في صياغة مستقبل أكثر عدالة وشمولًا واستدامة [4].

إن السودان، بتاريخه النضالي، وطاقات شبابه، وثراء مجتمعاته، قادر على تجاوز هذه المحنة. وستكون مراكز التدريب هي المعبر نحو هذا التجاوز، إذا ما وُضعت في قلب الرؤية الوطنية للتحول بعد الحرب.

المراجع

[1] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP). Rebuilding Livelihoods after Conflict: The Role of Vocational Training, 2015.
[2] البنك الدولي. Skills Development in Post-Conflict Countries, 2013.
[3] ILO – International Labour Organization. Skills Development in Fragile and Conflict-Affected Situations, 2020.
[4] وزارة العمل والتنمية الاجتماعية السودانية. استراتيجية التدريب المهني في السودان 2018–2023.
[5] Rwanda Development Board. Technical and Vocational Education and Training Policy, 2015.
[6] UNHCR Sudan. Livelihoods Programmes in Sudan: Supporting Displaced Communities, 2022.
[7] GIZ. Vocational Education and Training in Africa: Rwanda and Sierra Leone Cases, 2021.
[8] خالد مصطفى (2024). التعافي بعد الحرب في السودان: التحديات والآفاق. مركز الدراسات السودانية.