الأحد، 21 أكتوبر 2012


منهج صياغة البدائل لتحقيق العدالة الإجتماعية في المجتمع السوداني


 إن الدولة السودانية الوطنية ورثت دولة المستعمر في العام 1956 وتطورت على غرارها، مستنسخة هياكلها ووظائفها : دولة مركزية تنصب نفسها وصية على المجتمع ككل، تراقبه وتسيره بل وتبتلعه ابتلاعا.  أن الاستعمار البيرطاني  قد ميز بين أقاليم البلاد المختلفة، وكان التميز واضحاَ بين المناطق التي له فيها منافع اقتصادية واستراتيجية، حيث طور البنيات التحتية بها وقدم فيها الخدمات و فنصب فيها بنيات دولته الحديثة، الإدارية منها والاقتصادية والإعلامية والتعليمية، بالقدر الذي يخدم مصالحه الاستعمارية والاقتصادية والاستراتيجية، وبين المناطق التي لا منافع له فيها  ولا أهمية استراتيجية فتركها وشأنها مكتفيا بمراقبتها تجتر فقرها وخشونة الحياة فيه، (مناطق وسط السودان ومناطق غرب وجنوب وشرق السودان بدرجات متفاوتة).

أنتجت هذه السياسة الاستعمارية التفاوت الهائل الذي بقي يتسع ويتعمق على مستوى التحديث والنمو، بين المناطق المختلفة في البلاد، وزاد هذا التفاوت واتسع مع الدولة الوطنية التى سارت على خطى دولة المستعمر وفسلفتها. ولم يكن هذا التفاوت يعنى بالنواحي الاقتصادية والإدارية والعمرانية فقط، بل أتسع يشمل أيضا الجوانب الثقافية والفكرية والسلوكية. مما انتج وكرس ثنائية (ظاهرة الازدواجية والانشطار والإستقطاب) في أوجه الدولة المختلفة من اقتصادية واجتماعية تمثلت في ثنائية القطاع الحديث والقطاع التقليدي، والنخبة الحديثة والنخبة التقليدية والثقافة العربية الإسلامية والثقافة الإفريقية وسكان المدن والمهمشين وغيره. وترتب عن هذه الثنائية انشطار عميق في الوعي والسلوك عم الجميع رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً. أن الدولة الوطنية في السودان (الدولة الإستقلال) ورثت هذه الوضعية فأصبحت دولة  يمزقها الإستقطاب الثنائي ومشوهة المعالم مثقلة بالحروب الأهلية، تتداولت السلطة فيها نظم اعتمدت على القبيلة أو الحزب الواحد (الحاكم) أو التعددية الطائفية أو الديموقراطية المشوهة أو الدين، لحسم الصراع الاقتصادي/الاجتماعي

 حاولت حكومات الدولة الوطنية بجدية على تعميم مظاهر التحديث بدرجات متفاوتة، وذلك بإقرار بعض التجهيزات الأساسية والبنيات التحتية على مستوى النقل والإدارة وتوفير الخدمات المجانية على صعيد التعليم والصحة، ورغم الاختلاف الإيدولوجي لهذه الحكومات لم تفلح في حسم الازدواجية المتنامية المتغلغلة في جسم المجتمع والتي تعيد إنتاج نفسها باستمرار.  

 تأثرت الدولة الوطنية بالتغيرات السياسة والاقتصادية التي شهدها العالم في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات هذا القرن. أدت هذه التغيرات إلى زيادة واتساع الفوارق الاجتماعية والثقافية إلى درجة أصبح معها المجتمع يحتضن مكونيين: عالم الحداثة الذي يحاكي وينافس مثيله في أوربا وأمريكا، وعالم الموروث الاجتماعي الاقتصادي الثقافي الفكري الذي ينتمي بمجمله إلى القرون الوسطى، بل إلى المظاهر الجامدة المتزمتة في تاريخنا، ونتيجة لذلك زاد من خطورة الأزدواجية في الدولة الوطنية  وتعمق الصراع السياسي وانتشر في جميع انحاء البلاد.

 يشهد العالم اليوم مرحلة من التحول الجذري، على الصعيد الاقتصادي و الاجتماعي كما على الصعيد العلمي، تحولاً لم ترى البشرية مثله من قبل من حيث الكم المعرفي ووتيرة التحول. وهناك أربعة محاور تشكل المجتمعات الحديثة وهي (1) العولمة حيث يطغي ماهو اقتصادي على ماهو ايدلوجي (2) تقانة المعلومات والاتصال، والدور الذى تقوم به في تغير الاقتصاديات وتوفير المعلومات وانتقالها بسرعة هائلة متخطية حاجر الزمان والمكان والثقافة (3) الهندسة الجينية والتي ستفتح افاق كبيرة لتغير كثير من المورثات والاساليب المستخدمة في تنظيم حياة البشر وما كان يعتبر من الثوابت وأخيرا (4) التقانة النانوية والتي ستسمح بانتاج أشياء كانت من الخيال العلمي لوقت قريب.

 ان التحولات الاقتصادية والجتماعية التي شهدها العالم منذ منتصف القرن العشرين لم تحدث مصادفة واتفاقاً، بل جاءت امتدادا ونتيجة للحملات استعمارية والمنافسات الدولية والصراعات الإجتماعية التي انتجت إيديولوجيات متضاربة ومتصارعة كان لها الأثر الكبير فى هذه التحولات. بعد الحرب العالمية الثانية ومع صعود الثورة الصناعية تردد على نطاق واسع من العالم شعار: "الاشتراكية هي الحل " للمسألة الاجتماعية التي تتمثل في الاستغلال الطبقي والطغيان الرأسمالي، وللمسألة القومية والظاهرة الاستعمارية والتنافس الدولي الإمبريالي. ورآى الفلاسفة والمفكرين الثوريين منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى العقود الأخيرة من القرن العشرين بأن  طريق تحقيق العدالة الاجتماعية يرسم عبر التأميم، والأممية البروليتارية.

 كنتيجة للتطورات والكشوفات العلمية الهائلة التي شهدها العالم منذ العقود الأخيرة من القرن الماضي وفشل التطبيق الاشتراكي الشيوعي في الإتحاد السوفيتي وغيره من الدول الشيوعية. تغيرت الشعارات المحددة طريق تحقيق العدالة الاجتماعية عند كثير من المفكرين والسياسين فحل شعار الخصصة محل شعار التأميم و شعار "العولمة" محل شعار "الأممية البروليتارية" ، وسادت بين كثير من المفكرين والسياسين الأصلاحين وبعض الثورين شعار "الليبرالية هي الحل". وتراجعت بعض افكار مثل تحقيق العدالة الاجتماعية عبر "تأجيج الصراع الطبقي قطريا ودوليا". وتقدم العمل الإنساني، والتي كان ينظر أليها سابقاً بكثير من الشك، وظهرت جمعيات أهلية (طوعية وغير حكومية) مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان لتقوم بدور محورى في عملية تحقيق العدالة الاجتماعية ووتحاول هذه الجمعيات الأهلية أن تمثل "قطاع ثالث" بين الدولة والسوق، قطاع يهتم بتخفيف وقع الاستبداد السياسي  والظلم الاجتماعي على الطبقات المستضعفة،  إضافة إلى التخفيف من وقع الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية.

 ونتيجة لهذه التحولات العلمية والاقتصادية والاجتماعية أتسعت الشقة بين المكونات الثانية التي تشكل المجتمع السوداني، وافرزت كثير من الحركات والتجمعات والتحالفات السياسية الدينية والقبلية التي اعتمد أكثرها العنف في العمل السياسي، واتسم العمل السياسي بصورة العامة في الأونة الأخيرة بمظاهر التطرف وأعمال العنف التي ترتكب باسم الدين أو غيره والتي تجد دوافعها الاجتماعية الاقتصادية في الظلم الاجتماعي الذي يستشري في الدولة بصورة يزيدها غياب الديمقراطية وسياسة الإقصاء والتهميش استفحالا وعمقا.

 في إطار كل هذه التحولات والواقع التي عليه الدولة السودانية الوطنية اليوم هناك سؤالين أساسيين وجوهريين لابد من العمل الفكري الجاد للإجابة عليهما حتى نتمكن  لوضع خارطة طريق وصياغة بدائل لتحقيق العدالة الاجتماعية في البلاد :

1.     هل ستساعد كل من الخصصة والعولمة على التخفيف من وقع الازدواجية والانشطار والإستقطاب والتفاوت الكبير بين مكونات المجتمع السوداني أم أنهما ستزيدان هذا الواقع التخلف استشراءً وتجذراً؟

2.  كيف يمكن التمييز بين ما هو اجتماعي اقتصادي، وبالتالي سياسي، وبين ما هو "إنساني"؟ وكيف يمكن انتشال "الشأن الإنساني" من لاإنسانية الشأن الاقتصادي/ السياسي الذي تحكمه اليوم أكثر من أي وقت مضى قوانين السوق، قوانين الربح والمنافسة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق